هناك كتب تلمّسها فيما مضى رجال في عتمات الزنازين، أسماؤهم واضحة، منهم من صار شهيداً، ومنهم من خطفته المنافي والعواصم البعيدة، منهم من أصابه الرصاص، ومنهم من عاد إلى عتمة الزنازين مرة أخرى. يعود في معظمها إلى السبعينيات والثمانينيات وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي.
مقتنيات المكتبة:
ثمانية آلاف كتاب وثمانمائة دفتر وكُرّاس، هي ما تم نقله من سجن نابلس المركزي وسجن الجنيد بعد انسحاب الاحتلال من مدينة نابلس في العام 1995، لتقوم مكتبتنا العريقة، مكتبة بلدية نابلس العامة، باحتضان هذه التركة الإنسانية والأدبية والفكرية والمعرفية، التي منحها الأسرى لتاريخ القضية الفلسطينية.
تضم رفوف مكتبة الأسير كتبا في الفكر والفن والآداب والمعارف العامة واللغات وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية والعلوم الاجتماعية، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على مدى الاطلاع والثقافة الواسعين اللذين كان الأسرى يتمتعون بها ويسعون لها، وتبرز بكثرة كتب الأدب وكذلك الكتب الدينية وكتب الأيديولوجيا.
كتب نادرة وقيمة، مهترئة بعض الشيء بسبب الاستخدام المتكرر تراكمت آهات الزمن عليها، لكن لم يصلها العطب، كثيرة هي العيون التي سهرت وغفت وهي تقرؤها وتناقشها، فقد كانت ترى فيها السند والقوة والحياة، كتب لم يعف عليها الزمن، فالقضية التي دخل الأسرى السجون لأجلها وقرأوا وكتبوا لأجلها ما زالت حيّة، ولا يزال بعضهم يتردد على تلك الكتب بحثاً عن شيء يَعنيه.
كان استلام كتب سجن نابلس المركزي بتاريخ 18/10/1995 وكتب سجن الجنيد بتاريخ 21/10/ 1995 وبفارق ثلاثة أيام عن توأمها، وتتنوع محتوياتها بصورة كبيرة بحيث شملت جميع أنواع المعرفة الإنسانية بالإضافة إلى الكتب المنهجية التي كان يطالعها المعتقلون لإكمال تحصيلهم العلمي.
وبالإضافة إلى الكتب فهناك كُرّاسات (دفاتر) الأسرى التي كتبت بخط اليد، وكانت تدخل فارغة إليهم من خلال أهاليهم أو من خلال مديرية التربية والتعليم بمرافقة الكتب التعليمية المنهجية، وحَوَت هذه الكراسات تدوينا لكتاباتهم التنظيمية والتعبوية، وكذلك تحليلات سياسية وتأريخات لأحداث وأخبار ومجريات يومية، وفيها تسجيل لتاريخ الحركة الأسيرة ومعاناتها الدائمة داخل غرف الاعتقال والتحقيق ونضالاتها من خلال الإضرابات والاحتجاجات على سلوك المحتل الآسر، كما شملت ركنا هاما يمثل الحصيلة الفكرية والثقافية لكتابات عدد كبير من السجناء في الأدب والشعر والسياسة وكذلك المنقولات.
المعالجة الفنية للكتب وتجليدها:
فالخامات التي كانت تستخدم من اجل الحفاظ على الكتب عبارة عن مجموعة من المواد الأولية مما يتوافر لدى الأسرى من بقايا ومخلفات ما يدخل إليهم من الطعام والعلاج وغيره، ومن ذلك:
شاش جروح، طحين والنشاء، أي نوع من الورق كان يقع بين أيديهم (جرائد، أكياس الطعام التي كان يحضرها الأهالي للمعتقلين، المجلات، .. )، إلى أن سمحت إدارة السجون بتزود الأسرى بالمواد الخام اللازمة للتجليد ( كرتون، لاصق، ورق … ) ثم أصبح بإمكان الأسرى الطلب من أهاليهم تزويدهم بالمواد الخام التي يحتاجونها (عن طريق الشراء) وكانت حبات البطاطا تستخدم كأختام بعد تجهيزها لتثبيت ملكية الكتاب لمكتبة السجن.
الأبعاد الإنسانية للمكتبة:
عدد كبير من المعتقلين المحررين زاروا المكتبة للاطلاع على كتاب معين أو تصوير عبارة دونت على إحدى صفحاته بغية العودة لبعض تفاصيل يومياتهم داخل الزنازين الإسرائيلية، يقول أحدهم: قبل الأسر كنت عتالاً لا أقرأ ولا اكتب أما ألان وبعد 14 سنة في الأسر فانا اكتب العربية وأعلم العبرية وأترجم الإنجليزية، وآخر جاء يبحث في كعب كتاب “فقه السنة” عن إبرة كان وضعها فيه عند دخول إدارة السجون عليهم فجأة فلجأ إلى إخفاءها في كعب الكتاب.
ومن الذين زاروا المكتبة الاستاذ خليل عاشور حيث تكلم عن ذكرياته داخل الأسر، وعن ثقافة السجون وتجربته الثقافية داخل المعتقل، وانه لجأ إلى تعلم اللغة الإنجليزية دون مساعدة احد من خلال سلسلة كتب تعليم اللغة الإنجليزية وهي من (أربعة أجزاءEssential English ) الى ان أتقنها بشكل ممتاز واخذ الثانوية داخل المعتقل وأكمل بعدها تحصيله العلمي بعد خروجه من السجن “أنظر الفيديو التسجيلي”.
وأيضا السيد عبد الله أبو غضيب حيث كان هو القيّم على مكتبة سجن نابلس والمسؤول عن تجليد الكتب داخل السجن “أنظر الفيديو التسجيلي”.
ومنهم من حضر ليرى كتابات والده داخل الأسر وهو احمدالحروب من الخليل حيث كتب والده عن علم الحيوان.
وحيث كان التواصل عبر السجون غالبا ما يتم عن طريق الكبسولة (وهي ورقة ناعمة وصغيرة جدا يكتب عليها بخط دقيق جدا) وكان يؤخذ ورق الكبسولة من علب دخان نوع (عمر) حيث تكون السجائر مغطى بورقة فضية من جهة والجهة الأخرى ناعمة فتؤخذ الناعمة ويكتب عليها، وإما من علب اللبنة حيث تكون مغطاة بورقة سهلة الغسيل ثم تنشر وتجفف وبعدها يكتب عليها وبعد الانتهاء من الكتابة تلف الورقة بشكل اسطواني صغير ودقيق ثم توضع على كيس نايلون وتلف على شكل اسطواني وبعدها يتم إحضار الولاعة ليتم تسكيرها من الجوانب والمنطقة الوسطى وتبرم جيداً، ومن الطرافة أن نعلم أن أحد كتب المكتبة أعد جيدا وحفر من أجل الحفاظ على عدد من هذه “الكبسولات” وتخبئتها فيه ودمجه بأمان بين آلاف الكتب فيها.
وإلى اليوم ما زال بعض المعتقلين يتردد على المكتبة ويطالع بعمق وقد قال أحد الأسرى المحررين أثناء زيارته للمكتبة أنها تذكرة بتجربتين؛ الأولى مؤلمة وهي الأسر، والثانية عظيمة وهي التي جعلته إنساناً.
بلغ عدد الكتب في مكتبة الأسير الفلسطيني 7578 كتابا، منها (2372) من مكتبة سجن نابلس المركزي و (5206) من مكتبة سجن جنيد، فيما بلغ عدد كراسات الأسرى (875) دفترا، وتعامل كتب المكتبة كمعاملة المراجع، حيث الإعارة والاستخدام داخل المكتبة فقط.